*ميثاق: بورتريه
لم يعمر ياسين الحافظ ليرى تأثيره في جيل كامل من المثقفين السوريين، ولكن إرثه لا يزال دليلا على عبقرية السوريين الذين يبدعون حتى في أحلك الظروف.
ولد الحافظ عام 1930 في دير الزور، سوريا، وكان من خلفية متنوعة. كان والده ينتمي إلى عشيرة البقارة، بينما كانت والدته مسيحية أرمنية نجت من الإبادة الجماعية للأرمن. شهدت الحياة السياسية المبكرة للحافظ انضمامه إلى الحزب الشيوعي السوري، لكنه تحول لاحقًا نحو حزب البعث، ولعب في النهاية دورًا رئيسيًا في المؤتمر الوطني السادس عام 1963. شارك في تأليف *”بعض المبادئ النظرية”*، والتي أشعلت صراعات داخلية داخل حزب البعث وأدت إلى تشكيل العديد من الفصائل، بما في ذلك حزب العمال الثوري العربي، الذي قاده الحافظ حتى وفاته.
«الناقد في زمن لم يعرف النقد»
يعد ياسين الحافظ من أكثر المفكرين السوريين تأثيراً وانتقاداً في التاريخ العربي الحديث. وقد ركزت رحلته الفكرية التي امتدت خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين على تشخيص جذور الركود العربي والعزلة وانفصال المنطقة عن التقدم البشري، وخاصة في مواجهة الحضارة الغربية. وكان الحافظ يعتقد أن العالم العربي ظل محاصراً داخل الإطار القديم لعصر المماليك، مما منع تطور دولة يمكنها أن تتجاوز هذا المستوى التاريخي من الحضارة. وكان هذا الجمود الفكري والسياسي، وفقاً للحافظ، السبب الرئيسي للهزائم المتوالية التي عانت منها الدول العربية، والتي أصبحت سلطنات سياسية وريعية اقتصادياً. وزعم أن مثل هذه الهياكل جعلت المنطقة عُرضة للغزاة الخارجيين الذين يسعون إلى استغلال مواردها الاستراتيجية.
- ولقد عزا الحافظ هذا التخلف إلى المحلية المتجذرة في المنطقة وفشلها في تبني المفاهيم العالمية التي شكلت المجتمعات الحديثة في أماكن أخرى. وانتقد ضعف البرجوازية العربية والطبقة المثقفة الهشة، التي ظلت تركز على الاهتمامات الإقليمية بدلاً من الحقائق العالمية. وبالنسبة له، كانت المشكلة سياسية في الأساس، سواء من الناحية النظرية أو العملية. ودعا الحافظ إلى تحول سياسي جذري من شأنه أن يقطع الصلة بالماضي ويدمج العالم العربي في النظام العالمي الحديث. وهذا من شأنه أن يمكن مبادئ الحداثة والعلمانية والمجتمع المدني والديمقراطية السياسية من إعادة تشكيل المجتمعات العربية بما يتماشى مع القيم العالمية، وتحرير الرجال والنساء من قبضة الأيديولوجيات الدينية والسياسية. وكان تحليل الحافظ فريداً من نوعه بين المفكرين القوميين، الذين اعتمد العديد منهم بشكل مفرط على الماضي. وكان يعتقد أن هذا التركيز على “رسالة أبدية” متجذرة في الماضي حاصر العالم العربي في التخلف. وعلى النقيض من ذلك، سعى نقده الصارم والمستند إلى الأخلاق إلى تحرير المنطقة من الطغيان الديني والسياسي. كان من أهم أفكاره الجهد المستمر لتطوير أفكار جديدة، وتجريد الأفكار القديمة من ادعاءاتها الحديثة. وكان إطاره المفاهيمي، الذي ركز على الحداثة والمعاصرة، يهدف إلى التغلب على الاستبداد السياسي والتخلف، والسماح للعالم العربي بالانخراط بشكل كامل في العصر العالمي.
امتد تأثير الحافظ إلى ما هو أبعد من موطنه الأصلي سوريا. وكما لاحظ ياسين الحاج صالح، فتح الحافظ أعين الكثيرين على الخيارات الفكرية الديمقراطية والنقدية. وأثار عمله الأكثر شهرة، “الهزيمة والأيديولوجية المهزومة”، مناقشات مهمة بين الطلاب المغاربة في الثمانينيات. قدم الكتاب للطلاب المغاربة محمد حبيب طالب، وهو شخصية بارزة من اليسار المغربي، تحليلاً نقديًا شاملاً حول تركيز الحركة الطلابية بعيدًا عن وجهات النظر الضيقة القائمة على الطبقة نحو تحليل أوسع وأكثر ثقافية وسياسية.
«السياسي الذي رفض التأطير»
على الرغم من براعته الفكرية، كافح حزب العمال الثوري العربي لكسب دعم واسع النطاق بسبب الأنظمة الاستبدادية وتأكيده على التوسع الفكري بدلاً من التوسع السياسي. اعتُقِل الحافظ في عام 1966، وتقاسم زنزانة مع الدكتور جورج حبش، ولكن بعد إطلاق سراحه، انتقل إلى بيروت، حيث عاش حتى وفاته في عام 1978 عن عمر يناهز 49 عامًا.
في سنواته الأخيرة، حوَّل الحافظ تركيزه الفكري إلى مفهوم “الفشل التاريخي” وركود المجتمعات العربية، وعزا ذلك إلى عدم وجود مرحلة ليبرالية في تطورها. وقد شكل هذا تحولًا حاسمًا في فكره، حيث ابتعد عن القومية العربية والماركسية نحو نقد ليبرالي للهياكل السياسية في العالم العربي. بعد أن خاب أمله بسبب إخفاقات الناصرية والحرب الأهلية اللبنانية، زعم الحافظ أن السياسة العربية لم تكن معيبة فحسب، بل كانت غير عقلانية ومتخلفة إلى حد كبير، وقال في مقولته الشهيرة: *”نحن لا نواجه أخطاء، بل تخلفًا… إنها سياسة قرية في عالم من المدن”.
لقد ترك إرث الحافظ الفكري، على الرغم من انقطاعه، تأثيرًا عميقًا على الفكر السياسي العربي والمغربي. لقد ألهم عمله *منظمة العمل الديمقراطي الشعبي* في المغرب، وكذلك *اتحاد العمل النسائي*، وكلاهما لعب دورًا محوريًا في تعزيز الوعي الثقافي والسياسي. وعلى الرغم من تعثر مشروعه السياسي الأوسع بسبب الصراعات الداخلية والضغوط الخارجية، فإن موقف الحافظ النقدي ضد الطائفية وإيمانه بالديمقراطية باعتبارها المسار الوحيد القابل للتطبيق للأقليات لا يزال ذا صلة عميقة اليوم.
*مواد ذات صلة:
في التأمل في عمله، لا تزال رؤية الحافظ لعالم عربي حديث، خالٍ من التخلف ويحتضن القيم الديمقراطية، تتردد صداها. كما لاحظ ذات مرة، “الثوري الحقيقي يزرع كل يوم لكل الرياح. إنه لا يعرف متى سيأتي موسم الحصاد، لكنه يعرف أن البذرة تبقى في الأرض، وأن الأرض، مهما طالت، فهي سخية.” إن هذا الإيمان بإمكانية التقدم في المستقبل، على الرغم من النكسات، يجسد الروح الدائمة لإرثه الفكري.
«الحافظ وإميل دوركهايم»
إن ياسين الحافظ وإميل دوركهايم يشتركان في أوجه تشابه فكرية مهمة، وخاصة في تركيزهما على البنى المجتمعية والحاجة إلى التحديث الثقافي. فقد انتقد كل من المفكرين المجتمعات التقليدية لاعتمادها على أطر عفا عليها الزمن وأكدا على أهمية الوعي الجماعي في تشكيل التقدم المجتمعي.
إن التمييز الذي أجراه دوركهايم بين المجتمعات التقليدية (التضامن الميكانيكي) والمجتمعات الحديثة (التضامن العضوي) يتماشى مع تحليل الحافظ للركود العربي، حيث أعاقت المعايير السياسية والثقافية العتيقة التنمية المجتمعية. ورأى كل منهما أن العلمانية ضرورية للمجتمع الحديث، حيث زعم دوركهايم أن المجتمعات الحديثة تتطلب بنى عقلانية تتجاوز الدين، ودعا الحافظ العالم العربي إلى تبني المبادئ العلمانية والديمقراطية.
بالإضافة إلى ذلك، انتقد المفكران التفتت الناجم عن الخصوصية – دوركهايم في تركيزه على التماسك المجتمعي والحافظ في رفضه للطائفية في العالم العربي. في جوهر الأمر، كان كل منهما يعتقد أن البنى والأعراف الجماعية بحاجة إلى التطور حتى تتمكن المجتمعات من تحقيق الحداثة والتغلب على التخلف.
أكد كل من ياسين الحافظ وإميل دوركهايم على الحاجة إلى تطور المجتمعات من الأشكال التقليدية للتماسك والتنظيم إلى بنى أكثر عقلانية وعلمانية وحداثة. وانتقد كل منهما الطرق التي أعاقت بها المعايير الاجتماعية والثقافية القديمة التقدم، وكان كل منهما يعتقد أن التقدم المجتمعي يتطلب تحولاً في الوعي الجماعي. وفي حين ركز دوركهايم على التطور الأخلاقي والاجتماعي للمجتمعات، طبق الحافظ هذه العدسة على العالم العربي، وشخّص إخفاقاته الحضارية والسياسية في ضوء الركود الثقافي والأيديولوجي الأوسع. ويكشف اهتمامهما المشترك بكيفية تشكيل البنى الجماعية لصحة المجتمع وتقدمه عن ارتباط فكري أعمق بين أعمالهما.