المجتمع المدني ودوره في منع تغول السلطة

 مجال المجتمع المدني، على عكس مجالات الوحدات العضوية كالأسرة والقومية والطائفة والعشيرة، يسمح لجميع أفراد المجتمع بدخوله والمشاركة في مؤسساته، أو تكوين مؤسسات جديدة تغطى الحاجات الخاصة لمجموعة سكانية محددة. فحرية المشاركة في النشاطات العامة والسعي لتحقيق الأهداف المشتركة جزء أساسي من المجتمع المدني. ففي حين تشكل الأسرة الحيز الخاص المتاح حصريا لأفراد الأسرة أنفسهم، يشكل المجتمع المدني الحيز العام المنفتح على جميع افراده. 
في هذا المقال

 

 *ميثاق: أبحاث- لؤي صافي

ثمة أسباب كثيرة لتراجع أداء قوى الثورة والمعارضة السورية خلال الصراع السياسي الذي تحول إلى صراع مسلح مع رفض النظام في الدخول في حوار جاد مع القوى الشعبية للوصول إلى حل للأزمة السياسية والاقتصادية المزمنة التي انتهت في الانتفاضات الشعبية والدعوات المفتوحة لإسقاط نظام الأسد. بعض تلك الأسباب تتعلق بالتدخل العسكري الخارجي، وبعضها الآخر يرتبط بالثقافة السياسية التي تميل إلى المركزية والاعتماد على القوى الخارجية، وبغياب التقاليد السياسية التي تدفع النخب السياسية إلى التعاون لتحقيق المصلحة العامة، بدلا من التدافع المحموم للهيمنة على مؤسسات المعارضة. لكن القصور الكبير الذي حال دون بناء حركة وطنية تحمل هموم المواطن في الحرية والكرامة وفرص العمل المتساوية يرتبط بغياب مـؤسسات المجتمع المدني. فوجود مجتمع مدني حيوي في سورية كان قمينا بتجاوز القصور في مؤسسات المعارضة السياسية، وتحقيق درجة عالية من التنسيق والتناغم بين القيادات السياسية والعسكرية. بل يمكن القول إن منع تغول الدولة بعد تولى حافظ الأسد السلطة كان حال وجود مـؤسسات مجتمع مدني فاعلة.

وكما نبين أدناه فإن وجود مجتمع مدني فاعل أساسي لقيام دولة مواطنة تمارس مهامها ومسؤولياتها وتحمي حقوق المواطنين وتنافح عن مصالحهم وتمنحهم الحق بالمشاركة السياسية بوصفهم شركاء في الوطن. هذه الدولة التي سعى إليها السوريون مع انطلاق مسيراتهم السلمية في المدن السورية في مطلع عام ٢٠١١. دولة القانون والحريات المتساوية هي المطلب الذي عكسته صرخات المتظاهرين والمحتجين، وهو المطلب الذي عجزت النخب السورية عن تحقيقه مع غياب مؤسسات مجتمع مدني تربط أبناء المجتمع عبر مكوناتهم المتعددة، وتشكل البنية الاجتماعية الضرورية لتعاون المواطنين على اختلاف مكوناتهم على حفظ الحقوق والمصالح ومحاربة الفساد.

انطلقت الثورة في ربيع ٢٠١١ على شكل انتفاضات سلمية في المدن السورية، ثم تحولت بعد أشهر إلى صراع عسكري بعد أن زج نظام الأسد الجيش في مواجهة الشعب مما أدى ـإلى انقسامه، ثم بدأت+ بالتراجع السياسي بعد التقدم العسكري لعدم وجود بنية سياسية وطنية تتلاحم معها وتحميها من تحركات المغامرين. ويعود تراجع الثورة وجهود التغيير المرافقة لها مع دخول السنة الرابعة من انطلاقتها لأسباب عديدة، داخلية وخارجية، تستحق جميعها النقاش والبحث. لكنني سأكتفي في هذا العرض الوجيز بالتركيز على عامل محوري أعتقد أنه العقبة الكبرى التي تـحول دون تكامل جهود السوريين الرافضين للاستبداد، وهو تكامل أساسي في عملية التحول إلى دولة القانون والحريات التي يسعى السوريون للوصول إليها، وأقصد بذلك ضعف المجتمع المدني وغياب مؤسساته الضرورية لإيجاد قوة مجتمعة متكاملة تحول دون تغول الدولة المركزية.

المجتمع المدني وموقعه الحيوي في النظام السياسي

حيوية المجتمع المدني شرط ضروري لمنع تغول السلطة السياسية، لأن المجتمع المدني هو الذي يربط المواطنين بروابط وثقيه. فمؤسسات المجتمع المدني هي الأقرب لحال المواطنين وهمومهم، والحراك الاجتماعي هو الذي يولد الحراك السياسي. فالسياسة لا تولد مجتمعاً، بل المجتمع هو الذي يولّد السياسة. المجتمع المدني يتألف من جماعات سكانية ترتبط فيما بينها برابطة عضوية أو عقدية أو تعاونية خاصة. كما أن الجماعات الدينية (مذاهب وطوائف وفرق وملل..) تنتمي إلى مؤسسات المجتمع المدني، والجماعات العقدية (حركات ثقافية وسياسية ودعوية وحزبية..) جزء من المجتمع المدني، والجمعيات التعاونية والتكافلية جزء من المجتمع المدني أيضاً. إضافة إلى مؤسسة الأسرة والعشيرة والجيران ونحوها سواء كانت منظمة رسمياً أم تعمل بطريقة عفوية.

المجتمع المدني هو المجال الاجتماعي الواسع، خارج نطاق الأسرة والدولة والسوق، حيث يلتقي الناس ليتعارفوا ويتبادلوا ويتجادلوا ويتعاونوا على حل مشكلاتهم ويتكاملوا لتحقيق المصالح العامة المشتركة. يتألف المجتمع المدني من الجمعيات والمنظمات الطوعية غير الحكومية التي تسعى لتحقيق مصالح عامة مشتركة مثل النقابات، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، والجمعيات الحقوقية، والأندية الثقافية والرياضية والفنية.

 المصطلح المحوري في هذا التعريف هو مصطلح المجال الاجتماعي، والذي يشير إلى الفضاء أو الحيز العام في المجتمع الذي يسمح لأفراده بالدخول في حوار ومناقشة، وتوافق وخلاف، وتنسيق للجهود المشتركة سعيا إلى التأثير في الحياة المجتمعية وتحسين شروط معيشهم. الحيز الاجتماعي الذي يشكل دائرة المجتمع المدني لا يتضمن الأسرة لخصوصيتها وطبيعتها المغلقة التي لا تسمح للخارجين عنها بتناول شؤونها، والمشاركة في اتخاذ قراراتها الخاصة بها، على الرغم من كون الأسرة مكون أساسي من مكونات المجتمع الإنساني في غالب الثقافات والأديان.

مجال المجتمع المدني، على عكس مجالات الوحدات العضوية كالأسرة والقومية والطائفة والعشيرة، يسمح لجميع أفراد المجتمع بدخوله والمشاركة في مؤسساته، أو تكوين مؤسسات جديدة تغطى الحاجات الخاصة لمجموعة سكانية محددة. فحرية المشاركة في النشاطات العامة والسعي لتحقيق الأهداف المشتركة جزء أساسي من المجتمع المدني. ففي حين تشكل الأسرة الحيز الخاص المتاح حصريا لأفراد الأسرة أنفسهم، يشكل المجتمع المدني الحيز العام المنفتح على جميع افراده. وهو يختلف أيضا عن السوق نظرا في أن العلاقات بين المؤسسات التجارية هي زيادة أرباح أصحاب رأس المال الذين يشكلون شريحة اجتماعية ذات مصالح خاصة، تلتقي في بعض الأحيان مع مصالح أبناء المجتمع عموما، وتتناقض في أحيان أخرى مع تلك المصالح. ويبقى السوق مجال متوسط بين مؤسسات المجتمع المدنية والرسمية، يمكن لكليهما الاستفادة منه لتعزيز وجودها وتحقيق أهدافها المتكاملة.

بالإضافة للخدمات العامة التي تقدمها للمواطنين، تقوم مؤسسات المجتمع المدني بوظيفة سياسية تتعلق بتشكيل بنية مجتمعية يمكن أن توازن البنية الرسمية حال انحرافها عن مسارها، وبالتالي تشكل المؤسسات المدنية صمام أمام ضد الفساد الحكومي حال استشرائه. فالمنظمات الحقوقية المدنية تنافح عن الحقوق حال تجاوزها، ومنظمات المرأة تعمل على الدفاع عن حقوق المرأة وتسعى إلى تثقيف المجتمع وحل مشكلاته. بل يمكن للمؤسسات المدنية أن تقوم بمهمة منع استشراء الفساد من خلال مراقبة سلوك المؤسسات السلطوية، سواء تحدثنا عن مؤسسات الدولة التي تمتلك سلطة سياسية أو مؤسسات السوق التي تملك سلطة مالية. وبالمثل يشكل المجتمع المدني حيز حرية التحرك الذاتي سواء في إطار المبادرات المجتمعية أو الإبداع، وتتميز مؤسساته بالمشاركة الطوعية. هذه المشاركة الطوعية تميزه بصورة واضحة عن الهرمية السلطوية التي تميز مؤسسات الدولة ومؤسسات السوق.

إذن قيام مجتمع مدني يحتاج إلى وجود مجال اجتماعي خارج دائرة الأسرة والسوق والدولة. وجود هذا المجال يعطي حرية للتعبير والتجمع ويسمح بقيام قوى اجتماعية وسياسية تسعى لتحقيق المصالح العامة بصورة مستقلة عن الدولة. وهذا ما يجعل الحركات والأحزاب السياسية المعارضة جزء مهما من أجزاء المجتمع المدني. وتشمل المصالح العامة التي يسعى المجتمع المدني إلى تأكيدها وتحقيقها الجهود التي تهدف إلى الحفاظ على الهوية الوطنية والعقدية والدينية، وتعزيز القيم والمعايير، وتحصيل الاحتياجات والتطلعات المشتركة، محاربة التنمر والفساد، وحماية المستهلك، ورفع المهارات التواصلية والمهارات الاجتماعية والقيادية، ومحاربة الفقر ومساعدة الفقراء والمحتاجين.

وبالإضافة للدور المهم للمجتمع المدني في تقديم الخدمات لأبنائه والمساهمة في التعاطي مع المشكلات والتحديات التي تواجهه، بعيدا عن دوائر السلطة، فإن له أهمية سياسية خاصة، نظرا لأنه يسمح بتشكيل تجمعات سكانية متنوعة، تمتلك خبرات تنظيمية وتواصلية وإدارية، يمكن توظيفها لتحقيق درجة عالية من التعاون والتفاهم والتلاحم لمنع هيمنة مؤسسات السلطة هيمنة كاملة على المجتمع، والحيلولة بينها واحتكار وسائل التواصل والتفاهم والإعلام، الضرورية لقيام رأي عام مشترك. غياب مؤسسات المجتمع المدني يؤدي إلى زوال البنى الاجتماعية الوسيطة، التي تتوسط بين الفرد والسلطة السياسية، ويفتح الباب على مصراعيه لظهور الطغيان السياسي والأنظمة المستبدة.

يوفر المجتمع المدني للأفراد مسألة الانتماء الحقيقي الطوعي لدوائر خاصة تكون فيها المشتركات أعمق من مجرد المشتركات العمومية، لذلك تنهض مؤسسات المجتمع المدني باعتماد نوعين من القيم. أولاً: القيم المشتركة التي تحكم المجتمع السياسي بأكمله، ويتولد عنها أخلاقيات وأنماط عيش وقوانين مشتركة، وهنا يحضر العقد الاجتماعي بوصفه الأساس القيمي الضابط للسلوك العام والمبادئ الحاكمة. وثانيا: القيم الخاصة أو المحلية، وهي القيم الخاصة بالجماعات السكانية، التي تسمح بقيام أخلاقيات خاصة لكل جماعة سكانية تحكم سلوك أفرادها. وتندرج هنا مؤسسات المجتمع المدني التي تجمع أصحاب الانتماء المهني الواحد، مثل المعلمين، والأطباء، والمهندسين، وعمال، تجار، ومزارعين، الخ. قدرة مؤسسات المجتمع المدني على تحقيق مصالح مكون من المكونات السكانية، أو شريحة من شرائح المجتمع يجعل المجتمع المدني مجالا مهما لتحقيق حرية الأفراد والجماعات في التحرك، ويسمح للأفراد والجماعات بالقيام بمبادرات خاصة تخدم المجتمع السياسي ومكوناته، دون الحاجة للرجوع إلى المـؤسسات السلطوية. هذا النوع من الحراك الاجتماعي يجعل المجتمع المدني مجال الحرية الحقيقي داخل المجتمع السياسي.

إذن تقوم مؤسسات المجتمع المدني بدور حيوي في تعزيز المجتمع السياسي والحفاظ عليه، لا يقل أهمية عن ذاك الذي تقوم به المؤسسات الحكومية. يمكننا تمييز عددا من الوظائف والخدمات العامة التي يتولاها المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة، لعل أهمها:

  1. تعزيز الحرية والانتماء: فمؤسسات المجتمع المدني تمنح الأفراد مساحة من حرية التصرف والتنظيم ضمن مجموعات يتقارب فيها الفرد في العقيدة والسلوك الشخصي مع من يماثله في ميوله الدينية والعقدية والفكرية، وانتماءاته الثقافية واللغوية. وهي حرية غير متاحة في الدائرة الخاضعة لتوجيه مؤسسات الدولة التي تُلزم الأفراد بجملة من اللوائح والقوانين لتنظيم المجتمع وتوفير شروط السلامة والأمن وحماية المصالح العامة والمشتركة.

  2. حين ينتظم الفرد ضمن مـؤسسات المجتمع المدني وفق مبادئ أخلاقية وقواعد تنظيمية طوعية، تعمل المؤسسات العامة على تنظيم السلوك وفق مبادئ حقوقية وقوانين ملزمة، تفرض على الجميع بقوة القانون.

  3. مؤسسات المجتمع المدني أساسية لتنظم المجتمع بعيداً عن تدخل السلطة السياسية، وبالتالي إيجاد أطر تنظيمية لا تسعي إلى تولي السلطة لكنها قادرة على إيصال المطالب والتعبير عن مصالح الجماعات السكانية المختلفة، وهذا يسمح لها بممارسة تأثير مباشر على القرار السياسي.

  4. يلبي المجتمع المدني الحاجات المتنوعة للناس بشكل رئيسي، حتى لا يكون المجتمع عالة على وجود الدولة وجودة أدائها في تقديم الخدمات للناس.

المجتمع المدني عريق في الخبرة التاريخية للمجتمع المشرقي

 الدعوة إلى تمكين المجتمع المدني ومؤسساته ليست دعوة غريبة عن الوجدان السوري، والعربي عموما، بل تنبع من القيم السامية التي شكلت وجدان أبناء المنطقة ومن خبرتهم التاريخية. بل يمكنني القول إلى العلاقة الإشكالية بين دول ما بعد الاستعمار ومواطنيها يعود بالدرجة الأولى إلى تناقض تسلط هذه الدولة وفرضها لقوانين لا تنبع من الوعي المجتمعي ولا تتوافق مع الخبرة التاريخية المغروسة في ضمير أبناء المنطقة، حتى عندما تغيب عنهم على المستوي الوعي المشترك والخطاب العام. فتاريخ المنطقة لم يعرف الدولة المركزية المتسلطة على مقدرات المجتمع وحريات الفرد إلا في مرحلة ما بعد الاستعمار، وإصرار هذه الدولة على تفتيت المؤسسات الأهلية جميعا وألحاقها بالمـؤسسات الحكومية الخاضعة لحكم الفرد أو النخبة المنبتة عن مشكلات المجتمع وهمومه. تميز المجتمع المدني في البلدان العربية تاريخياً بحيوية كبيرة، ويعود الفضل في ذلك إلى القيم الرسالية، مثل قيم التعاون والتضامن والتراحم. هذا القيم تحولت بجهود النخب العلمية والثقافية إلى مؤسسات مدنية مكنت المجتمع من الاحتفاظ بحيويته بعيداً عن هيمنة السلطة مثل مؤسسة الوقف. ولعبت الأوقاف دوراً كبيراً في نمو المجتمع، ومكنت أفراده من توظيف ثرواتهم وجهودهم ومهاراتهم لخدمة شرائح المجتمع المختلفة، وتقديم خدمات عامة، بما في ذلك بناء المستشفيات وتوفير الدواء وتقديم المنح التعليمة والكتب الدراسية والانفاق على المرافق العامة ومحاربة الفقر، وغيرها من الخدمات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والثقافية وطبية.

 استطاع المجتمع العربي التاريخي تحقيق استقلالية مؤسساته المدنية من خلال استقلال أوقافه. فقد كان الوقف قاعدة مالية مستقلة عن الدولة لتمويل المؤسسات المدنية كالمدارس والمستشفيات والنقابات إلى أن أتت دولة ما بعد الاستقلال لتصادر هذه المؤسسات وتلحقها بجهاز السلطان. ولتتحول مؤسسات المجتمع المدني بأسرها بعد ذلك إلى وسائل في يد قائد الجند ورجل الأمن للتحكم بالرعية وترويضهم على حب السلطان. وبينما برزت فكرة المجتمع المدني في كتابات مفكري عصر الأنوار الغربيين، مثل هيغل وماركس، في القرن التاسع عشر الميلادي، فإننا نجد أن المجتمعات العربية التاريخية عرفت مؤسسات المجتمع المدني واعتمدت عليها من القرن الثامن الميلادي والموافق للقرن الثاني الهجري. فقد اضطلعت المؤسسات المدنية في المشرق بمسؤوليات المجتمع الرئيسية كالتعليم وتنظيم السوق وبناء المرافق الصحية والخدمات الاجتماعية. وظهرت النقابات والشركات ومراكز التوجيه. وشكلت هذه المؤسسات المدنية شبكة واسعة من العلاقات على الامتداد الجغرافي الواسع للمجتمعات الإسلامية التاريخية، من طنجة وإشبيليا في الغرب إلى دهلي وسمرقند في الشرق. وفي مقدمة مؤسسات المجتمع المدني التاريخية ثلاث مؤسسات لعبت دورا مهما في تنظيم المجتمع وحل مشكلاته:

  1. النقابات والتنظيمات التراتبية لأصحاب الحرف والمهن في المدن العربية والإسلامية مثل دمشق والقاهرة وحلب وأصفهان وشيراز.

  2. شبكة العلاقات التجارية التي واكبت ازدهار التجارة وتطوير مراكز وشبكات تجارية ممتدة على مساحات جغرافية واسعة بين شرق آسيا والمغرب العربي.

  3. العلماء والفقهاء الذين شكلوا النخبة الاجتماعية والثقافية، وكان لهم تأثير كبير في توجيه المجتمع، واحتفظوا حتى القرن الميلادي التاسع عشر بالسلطة التشريعية.

ساهمت النقابات الحرفية في تنظيم الحرف في السوق، ورعت نظاما للتدريب الحرفي، كما مارست دورا سياسيا مهما، وسعت للتأثير في المراسيم السلطانية والأحكام القضائية المتعلقة في المهن والصناعات. فالمتابع للإجراءات المتبعة والقواعد الحاكمة للحرفة والسوق يجد “أن داخل هذه التنظيمات تراتبية معينة ومحددة”، ابتداء من المريد، ومرورا بالصانع “إلى المعلم، إلى شيخ الحرفة، إلى شيخ السوق”.[1] وجرت العادة على انتخاب “شيخ السوق بإجماع التجار والحرفيين، ويفترض أن تتوافر فيه صفات الاخلاق الحسنة، والتعقل والحكمة. وكانت مهمة هذا الشيخ تشمل ‘الاشراف على كل الطوائف الحرف ومشايخها، ويقوم بصلة الوصل ما بين الوالي والقاضي من جهة، والطوائف الحرفية من جهة أخرى، ولا يتم أي تغيير فيها إلا بعلمه ورأيه، وكان مشايخ الحرف كلهم ينتخبون بحضوره ويزكون بتزكيته”.[2]

ورافق تطور التنظيمات النقابية تطور في المؤسسات التجارية والصيرفية التي سهلت التبادل التجاري بين المراكز التجارية المتباعدة. وازدهرت “الحركة التجارية من الاستيراد والتصدير مع العالم الخارجي، وأصبح للتجار وكلاء ومراكز تجارية في مختلف البلدان، الذي يتاجرون معها، كما تأسست مؤسسات مالية صيرفية لتسهيل العمليات التجارية، وبالتالي القيام بدور مهم مثل تسليف التجار. ‘ولعبت معاملات الائتمان دورها الكبير في التجارة وظهرت مؤسسات صيرفية تقوم بدور البنوك في العصر الحاضر، ومن هذه بيوت الجهابذة الذين خدموا التجارة كما دعموا اقتصاد الدولة في بعض الفترات‘”.[3]

ونقل لنا الرحالة المغربي ابن بطوطة صورا مهمة عن تنظيم الأسواق والمدن في بلدان العالم الإسلامي العديدة التي زارها خلال رحلاته الطويلة، وبيّن المستوى العالي من التنظيم الإداري للمجتمع المدني بعيدا عن دوائر السلطان الرسمية. فخلال حديثة عن أصفهان، نقل ابن بطوطة صورة مشرقة عن تنظيم الصناعات داخل المدينة، واعتماد مكونات المجتمع المدني على عملية مماثلة لتنظيم الحياة الاجتماعية خارج دائرة التنظيم الحرفي. يقول ابن بطوطة: “واهل كل صناعة يقدمون على أنفسهم كبيرا منهم يسمونه الكلو، وكذلك كبار المدينة [أي مدينة أصفهان] من غير أهل الصناعات”.[4]

الوقف واستقلال مؤسسات المجتمع المدني

 تمكن المجتمع العربي التاريخي من الاحتفاظ باستقلالية مؤسساته المدنية من خلال استقلال أوقافه.  فقد كان الوقف قاعدة مالية مستقلة عن الدولة لتمويل المؤسسات المدنية كالمدارس والمستشفيات والنقابات إلى أن أتت دولة ما بعد الاستقلال لتصادر هذه المؤسسات وتلحقها بجهاز السلطان. ولتتحول بعد ذلك مؤسسات المجتمع المدني بأسرها إلى وسائل في يد قائد الجند ورجل الأمن للتحكم بالرعية وترويضهم على حب السلطان.

من أهم الإضاءات على دور مؤسسة الوقف في تنظيم ودعم المجتمع الإسلامي التاريخي، وتنوع الأغراض الاجتماعية التي تحققها، نجدها في مذكرات ابن بطوطة، التي وضعها في كتابه المعروف، تحفة النظار في غرائب الأمصار. يتحدث ابن بطوطة عن تنوع الأوقاف في دمشق فيقول:

«والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها. فمنها أوقاف العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته. ومنها أوقاف لفكاك الأسرى. ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم. ومنها أوقاف تعديل الطريق ورصفه لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ويمر الركبان بين ذلك.»[5]

ويتحدث عن طرافة هذا التنوع حتى ليكاد المرء لا يجد وظيفة أو مهمة اجتماعية إلا وكان لها وقف لمساعدة الناس في تجاوز تحديات الحياة اليومية. حتى الصحون المكسورة عن طريق الخطأ من صبيان كلفوا من معلميهم بنقل الطعام ضمن المدينة لها وقف خصص لمساعدة هؤلاء الصبيان المتعثرون:

«مررت يوما ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكا صغيرا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت. واجتمع عليه الناس، فقال بعضهم: ‘اجمع شققها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني‘. فجمعها وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما يشتري به مثل ذلك الصحن. … فكان ذلك الوقف جبرا للقلوب، جزى الله خيرا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا».[6]

هذه الحيوية في المجتمع المدني التاريخي ومؤسساته لا يقتصر على مدينة دون أخرى بل تجد أن الوقف منتشر في أصقاع المعمورة على امتداد المجتمعات الإسلامية في أوج امتدادها وازدهارها. هذه أصفهان قد وقف أبناؤها حمامات لتوفير الخدمة المجانية للزائرين:

«وكان نزولي بأصفهان في زاوية تنسب للشيخ علي بن سهل تلميذ الجنيد، وهي معظمة يقصدها أهل تلك الآفاق ويبركون بزيارتها. وفيها الطعام للوارد والصادر. وبها حمام عجيب مفروش بالرخام وحيطانه بالقاشاني، وهو موقوف في السبيل لا يلزم أحدا في دخوله شيء».[7]

بل إن القارئ لمذكرات ابن بطوطة يجد أنه استطاع الانتقال عبر المجتمعات الإسلامية من أقصى المغرب إلى بلاد الهند بالاستفادة من شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية الأهلية التي اعتمدت على منظومة الوقف لتزويد طلاب العلم بالسكن والعلم والمنح الضرورية، فكان ابن بطوطة يأوي إلى تلك الزوايا كلما قل زاده وقصر كسبه، فيعتمد على مساعداتها إلي أن يحصل على وظيفة توفر الدخل للأنفاق على احتياجاته.[8]

هذه الجهود الخدمية والخيرية والمجتمعية التنظيمية التي تغطي كل وظيفة وحاجة جعلت المجتمع المدني العربي والإسلامي أكثر المجتمعات الإنسانية حيوية عبر التاريخ، فلم تتوقف المؤسسات المدنية غير الرسمية على توفير التعليم والطب ومعاشات العلماء والمدرسين، بل ذهبت إلى كل تفريعة وغاية وحاجة من حاجات المجتمع، لتحوله إلى مكان فريد في التعاون والتكافل والتراحم والتلاحم.

الخلاصة

قيام المجتمع مدني حيوي في سورية خطوة ضرورية لتمكين السوريين من رص صفوفهم والتعاون على تحقيق دولة الحرية والقانون. مؤسسات المجتمع المدني التي تشكلت بعد الاستقلال لم تنمُ إلى المستوى الذي عرفته على مدار تاريخ المنطقة، ولكن نظام الحزب الواحد والقائد الخالد دمرها جميعا وأحالها إلى أدوات يستخدمها رأس الدولة الحاكم بأمره لتكريس سلطته والتحكم بمفاصل المجتمع. المطلوب في هذه اللحظة التي انتقل فيه القرار إلى دول الوصاية وتحولت فيها مؤسسات المعارضة إلى مجموعات هامشية خاضعة لقرارات إقليمية العمل على بناء هذه المؤسسات ودعمها والاعتماد عليها لإعادة اللحمة الوطنية المفقودة من عقود طويلة. ولعل الجاليات السورية في دول المهجر تلعب دورا رئيسيا بما تملكه من خبرات وقدرات مالية وعلاقات في إعادة بناء مؤسسات المجتمع. هذه البناء مطلوب ليس فقط لتطوير حراك وطني واسع يعجل مسار الانتقال السياسي، بل هو مطلوب أيضا لمنع تغول الدولة وتسلط مغامرين على مفاصلها والاستفراد بالحكم مرة أخرى.

 

لتحميل الورقة بصيغة PDF 

 Pdf Icon, Transparent Pdf.PNG Images & Vector - FreeIconsPNG

 

[1] توفيق المديني، المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، 1997، ص 316

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ص 316-17

[4] ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار عجائب الأسفار، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1407/1987)، ص 214

[5] المصدر نفسه، ص 122

[6] المصدر نفسه.

[7] المصدر نفسه، ص 125

[8] المصدر نفسه.