إلى المؤتمر الوطني للسوريين في أمريكا

 تعد المدرسة مختبر تطبيق مبادئ العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، والتدرب على الحوار وقبول الاختلاف، على المدرسة إعادة بناء سلوك الفرد على أسس جديدة، أسس من الحرية والقيم الإنسانية النبيلة واحترام حقوق الإنسان ورفض الظلم وإشاعة التعاضد الإنساني بين الجميع. 
في هذا المقال

*ميثاق: الدكتور فايز القنطار

  

يسرني أن أتوجه بالتحية والتقدير لكل المشاركين في هذا المؤتمر والى كل الباحثين عن مخرج للوضاع الكارثية التي تعيشها سوريا وشعبها، لكم جميعا عمق المودة والتقدير.

تشكل الأسئلة المطروحة في اعلانكم عن المؤتمر القاعدة الأساسية للديمقراطية، أنا، وكل من يؤمن بالنظام الديمقراطي، أجيب بنعم على جميع الأسئلة المطروحة. فالمساواة بين الجميع وحيادية الدولة وفصل السلطات وسيادة القانون وضمان الحريات العامة والفردية وحق الاختلاف (الأقليات)، هي الأسس التي يستند اليها النظام الديمقراطي. يجب أن تشكل ثوابت الانتقال الى الجمهورية الثالثة في بناء دولة المواطنة وسيادة القانون. وأعتقد بأن الكثير من المشاركين سيتناولون هذه المبادئ بالتفصيل. لذا سأحاول التركيز على نقطتين أساسيتين وضروريتين لترسيخ النظام الديمقراطي: 1 ـ التربية     2 ـ التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

الانتقال الديمقراطي والمسألة التربوية

مقدمة أصبحت التربية ونوعيتها وأهميتها، ودرجة الانفاق على شؤونها، مؤشرا على تقدم المجتمعات الحديثة. تشير غالبة تقارير التنمية البشرية إلى تراجع مكانة التربية وتدهور نوعيتها في معظم البلدان العربية. في سوريا شكلت سنوات الحرب كارثة تربوية حقيقية، إضافة الى غيرها من الكوارث التي طالت مختلف مناحي الحياة، حيث دمرت آلاف المدارس، وتحولت بعضها الى مقرات للميليشيات أو الى مراكز اعتقال وتعذيب، وأصبح أكثر من 3 ملايين طفل خارج المدرسة، مما يترك أثرا خطيرا بعيد المدى على الأجيال القادمة. أن نجاح التحول الديمقراطي وتحقيق إصلاحات عميقة رهن ببناء نظام تربوي حداثي رفيع المستوى، يساهم في بناء جيل يحقق تطلعات المجتمع في إعادة البناء وتحقيق التقدم والازدهار.  في سوريا قبل الثورة، تعرض الميدان التربوي، كغيره من ميادين الحياة، الى مشكلات عميقة ومن تخلف مزمن وضعف الإمكانات وتدهور مستوى التعليم، وانفصال مخرجاته عن الواقع.

 اخفقت المدرسة في أشاعه التفكير العلمي وامتلاك البنية المعرفية العقلية التي تمكن الفرد من المشاركة في انتاج المعرفة وتمثل تطبيقاتها التكنولوجية. وتم توظيف المدرسة لمصلحة ترسيخ الاستبداد وترويض الأجيال عبر تنمية العلاقات التسلطية وسلوك الخضوع والإذعان الذ ي لا يترك مجالا للحرية أو للمبادرة الفردية، فتحول الطفل الى كائن سلبي متلق غير فاعل. أخفقت التربية أيضا، في ربط التعلم بالحياة، بما يمكن الفرد من تمثل مشكلات بيئته ومجتمعه بحيث يكون فاعلا، يتمكن من امتلاك القدرات والمهارات التي تساهم في حل تلك المشكلات وفي دفع عجلة التقدم والتنمية. كما تم اغفال البحث العلمي المبدع، الذي كان يمكن أن يلبي احتياجات التطور والتقدم، ويساعد في تقديم الحلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. إضافة الى ما سبق، شكل غياب الحريات، في ظل أنظمة سلطانية قمعية، شكل بيئة غير مناسبة لنمو الابداع، بيئة طاردة للعقول والخبرات المتميزة.

صورة تعبيرية عن التعاون الاجتماعي

لا يمكن إطلاق عجلة التغيير الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي في العمق دون اعتماد مشروع تربوي يمكن المجتمع من النهوض والدخول في عالم العصر.

التربية في سوريا بعد الاستقلال عرفت سوريا حماسا قويا نحو التعليم، وحظيت التربية باهتمام مجتمعي وحكومي في العقد الأول بعد الاستقلال، تواصلت الجهود وتوجت في الزامية التعليم. وكانت المدرسة تفتح ابوابها للتلاميذ صباحا وبعد الظهر بحيث تتراوح عدد الساعات المدرسية من 7 إلى 8 ساعات يوميا. والكثير من المدارس تفتح بعض شعبها للمراجعة المسائية. كما حاولت المدرسة التكيف مع ظروف المجتمع المحلي، فتم تحقيق المدرسة المتنقلة لضمان تعليم أطفال البدو الرحل المتنقلين من مكان الى آخر. استمر هذا الاهتمام بعد انقلاب آذار 1963، اولى البعث في سنواته الأولى، اهتماما خاصا بالتعليم. واستمر هذا الاتجاه، في السنوات الأولى، بعد سيطرة الأسد على السلطة.

في بداية الثمانينيات بدأ الترهل واضحا في التربية التي تأثرت بالفساد الذي اكتسح مختلف جوانب الحياة، حيث تراجعت نوعية التعليم ولم تطبق الزاميته، كان يمكن ملاحظة مئات الأطفال خارج المدرسة، يعملون في سن مبكرة، خصوصا في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد. في مراكز المدن، تناوب فوجان من التلاميذ على المدرسة الواحدة، في صفوف مكتظة، مما أدى إلى خفض الساعات المدرسية. وأخطر ما أصاب التربية هو تهميش المعلم ماديا واجتماعيا، مما أدى الى تردي التعليم كما ونوعا. فقدت العملية التربوية ديناميكيتها وأصيبت بالترهل والجمود، واعتماد منهج الحفظ والتلقين دون الاهتمام بتنمية التفكير والقدرة على المحاكمة، كان يفرض على الأجيال ترديد الشعارات الجوفاء الخالية من المعنى، ويرغم الجميع على التغني حبا بالقائد الذي تحول الى ما يشبه الاله عبر تقديس بعض صفاته، فهو يمتلك قدرات خارقة استثنائية تفوق قدرات البشر، هو المعلم الأول والقاضي الأول والرياضي الأول….. في هذه المعمعة يضيع العقل والعقلانية ويتراجع التفكير المنطقي ويموت الابداع.

بعد أن تمكن النظام الدكتاتوري من بناء آلته القمعية وترسيخ نظامه على أسس بوليسية، لم يعد يهتم لا بالتربية ولا بالصحة أو الخدمات الاجتماعية. وازداد ت الهوة اتساعا بين النخبة الحاكمة المتحالفة مع التجار ورجال الأعمال والسماسرة، من جهة، وباقي افراد الشعب من جهة ثانية. في بداية الألفية الثالثة، مع وصول الوريث الى الرئاسة، ازداد الوضع التربوي تدهورا بفعل الطبقة الجديدة المفترسة من رجال الأعمال الشباب، من أبناء المسؤولين السابقين الذين أطلقت يدهم في النهب الممنهج لاقتصاد البلاد وموارد الدولة والهيمنة على جميع مفاصل الحياة، في تجاوز جميع الحدود القانونية والأعراف الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية والإنسانية. تحول الاقتصاد الى قطاعات خاصة لأهل السلطة، وسيطر منطق الاقتصاد الريعي على منطق الاستثمار والتنمية. في هذه الظروف أصبحت مصلحة النظام تكمن في التجهيل وتوسع الأمية، بحيث يسهل تطويع الناس واخضاعهم، ويسهل تجنيد العسس والمخبرين والحراس والخدم. تمكن النظام من العمل في سياق طويل لترويض المجتمع واحكام السيطرة على الجميع عبر المؤسسات التربوية والمؤسسة العسكرية. وأصبحت معايير الولاء للقائد ولأجهزته الأمنية هي الطاغية، وتم التلاعب بالعمل التربوي، فلم يكن ممكنا لمعلم او مستخدم في المدرسة أن يبقى بعيدا عن الرقابة. وأصبح تعيين المدراء واشغال الوظائف الوهمية والترقية وتسلم بعض المناصب الادارية، يتم استنادا إلى مدى التعاون مع أجهزة الأمن التي وضعت العملية التربوية برمتها تحت الرقابة المباشرة. وتعرض الكثير من المعلمين للمطاردة والفصل التعسفي.

تدهور التعليم نتيجة الفساد وعدم توفير المستلزمات الضرورية، وتردي وضع المعلم وتهميشه. كما فقد العمل التربوي أهم مقوماته؛ أي الحرية، حرية التفكير وحرية التعبير والمناقشة وإبداء الرأي، وعدم التسليم بالمقولات الجاهزة. تم العمل على ترويض الأجيال وتنشئتها على “حب القائد” والغناء له والهتاف بحياته، عبر مراحل التعليم المختلفة. وعندما يصل الشاب إلى مرحلة الخدمة الإلزامية، تبدأ مرحلة الاذلال والاستعباد والإخضاع التام.

التحول الديمقراطي يستوجب تغييرا تربويا تضع الملاحظات السابقة، مهمات كبيرة على عاتق قوى التغيير في سوريا، حيث يترتب عليها، العمل بجدية على بناء نظام تربوي حداثي مناسب. إذ يشكل النظام التربوي ركيزة أساسية من ركائز النظام الديمقراطي، يمكنه من التطور والتكيف في ظروف محلية ودولية متغيرة، ويمكن أن يشكل شبكة حماية ضد كل أشكال الدكتاتورية والانحراف، عبر ترسيخ القيم الديمقراطية والمواطنة وإشاعة ثقافة مجتمع الحقوق والواجبات ودولة القانون، دولة تحقق المساواة وتكافؤ الفرص، دولة لجميع أبنائها.

. ان الدماء العزيزة التي سالت في بلادنا والخراب الكبير الذي أصابنا، بسبب الطغيان يستدعي اعادة النظر بالعملية التربوية برمتها. يجب أن تقوم التربية الحديثة على أسس علمية، تنمي العقلانية وتبتعد عن التفكير الخرافي. كما يجب أ ن توفر فرص النمو المتكامل لشخصية الطفل، من مختلف الجوانب بحيث يتمكن من تحقيق ذاته وإطلاق إمكاناته إلى اقصى حد ممكن، ليكون قادرا على المساهمة الخلاّقة في بناء أمته وتحقيق أهداف مجتمعه في الازدهار والتقدم، والمشاركة الفاعلة في بناء الحضارة الإنسانية. يجب أن يستند النظام التربوي الى مبادئ الحرية وتنمية التفكير وتعميق القدرة على الحوار والمناقشة، وترسيخ قيم المواطنة وحقوق الانسان، وهذا يستدعي إحداث تعديلا جوهريا في العلاقات القائمة على التسلطية، والتحول الى علاقات الحوار والتبادلية، وتفهم الطفل وحاجاته ومتطلبات نموه والإصغاء لما يقول، وإتاحة فرص التعبير الحر وتنمية تفكيره وقدرته على المحاكمة، فالمدرسة الحديثة هي مدرسة تنمية الدماغ، الذي يعتبر القاعدة البيولوجية للتعلم. هي مدرسة تربية السلوك المتصالح مع المبادئ والقيم والمنسجم مع منظومة المفاهيم الديمقراطية.

تعد المدرسة مختبر تطبيق مبادئ العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، والتدرب على الحوار وقبول الاختلاف، على المدرسة إعادة بناء سلوك الفرد على أسس جديدة، أسس من الحرية والقيم الإنسانية النبيلة واحترام حقوق الإنسان ورفض الظلم وإشاعة التعاضد الإنساني بين الجميع.

لقد أهدرت أنظمة الطغيان ما يزيد على نصف قرن من حياة الشعوب العربية وعرقلت تقدمها. ان ثورات الربيع العربي محاولة خلاّقة لاستعادة مشروع النهضة الحقيقية التي تضع مجتمعاتنا في عالم العصر، وتحقق التقدم والازدهار، تمكن أبناءها من توفير فرص العيش الحر الكريم في أوطانهم، وتساهم مساهمة فعالة في تطور الحضارة البشرية واغتنائها، لتأخذ مكانها اللائق بين الأمم. إننا نحتاج إلى التفكير بطريقة جديدة لكي نتمكن من مواجهة مشكلاتنا الكبرى، مشكلات التنمية وتوفير فرص العمل والحياة الحرة الكريمة لأجيالنا. نحتاج إلى التفكير الاستراتيجي على المدى البعيد في مختلف الميادين التربوية والصناعية والزراعية والنقل والكهرباء والطاقة والسكن والبيئة والصحة والمواصلات وتخطيط المدن. فتركة نظام الاستبداد والفساد ثقيلة، وعلينا وضع الخطط والبرامج الطموحة والشروع بتنفيذها فورا. علينا بناء المؤسسات، وبوجه خاص، بناء عقلية المؤسسات، فبلدنا تدار حتى الساعة بطريقة المضافات والديوانيات، وليس بواسطة المؤسسات التي تتخذ قراراتها استنادا إلى البحوث والدراسات.

 على التربية ان تعيد النظر بكل ما يتصل بالعمل التربوي، بما ينسجم وتطلعات شعبنا نحو التحول الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية، دولة لجميع أبنائها، تحقق لهم الحرية والمساواة وتكافئ الفرص. إعادة النظر بالمناهج وأساليب التدريس وأدواته، وبالعلاقات التي تقوم بين المشاركين في العمل التربوي. على المربي تقديم النموذج السلوكي والأخلاقي والمعرفي للفرد الذي يحمل مشروع النهضة، وعمل كل ما يمكننا من بناء الشخصية المبدعة الخلاّقة القادرة على انجاز هذا المشروع. فالديمقراطية ليست مسألة سياسية فحسب، بل مسالة تربوية أيضا.

التربية     2 ـ التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

النظام التربوي الذي تحدثنا عنه سابقا، يحتاج الى قاعدة اقتصادية قوية، ولا نبالغ إذا قلنا أن استقرار النظام الديمقراطي يتطلب قاعدة اقتصادية صلبة، لذا يجب السعي لترسيخ التنمية المستدامة والتفكير في تطور الاقتصاد وازدهاره وتشجيع الاستثمار وتوفير البيئة المناسبة الآمنة لعودة الرساميل والصناعات السورية المهاجرة، بسبب نظام التشليح الذي ميز سلوك السلطة الأسدية التي أوصلت البلاد الى درجة غير مسبوقة من الفقر والعوز. ان الازدهار الاقتصادي وحده، يمكن الدولة الوطنية من توفير التعليم المجاني والخدمات الصحية والضمان الاجتماعي لكل سوري بحيث تتوفر له فرص الحياة الكريمة ومتطلباتها المادية اللازمة.

كما أن التنمية الشاملة المتوازنة لجميع المناطق، دون تمييز بين الريف والمدينة، وتركيز الاهتمام على المناطق التي همّشت في المرحلة السابقة هو الطريق لتحقيق العدل والاستقرار والازدهار لجميع السوريين.

إعادة النظر في توزيع الثروة، وتخصيص المنطقة الجغرافية المنتجة بنسبة منها، خصوصا مناطق انتاج النفط والغاز والفوسفات وغيرها، بما يشعر الناس بأن هذه الثروة تعود عليهم بالخير وتحقيق المنافع التنموية. لن أتوسع أكثر في هذا المجال، فبعض المشاركين هم من عمالقة الاقتصاديين ورجال أعمال ناجحين، نأمل منهم إغناء المؤتمر بأفكارهم في ميدان الاقتصاد.

الأخوة المشاركين في هذا المؤتمر، لكم جميعا أطيب الأمنيات بالتوفيق وتحقيق الأهداف في استعادة بلدنا حرا كريما موحدا.

***

أكاديمي سوري، أستاذ في كلية التربية، جامعة دمشق، مقيم في فرنسا منذ نهاية عام  2013، كاتب في الشؤون التربوية والاجتماعية والفكرية الأكاديمية، معارض سوري.

 24/8/2022

د. فايز القنطار