*ميثاق: مقالات وآراء
المصدر: “العربي الجديد-دلال البزري”
لم يبقَ أحدٌ لم يدلِ بدلْوه في الحرب الدائرة بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس في غزّة. ولا دولة، ولا رئيس جمهورية أو وزير، لا زعيم ولا حزب أو جمهور، إلا بشار الأسد. صامت مثل أبو الهول. بلى تكلّم… تكلّم… مرّتين: مرة بعد الاعتداء الإسرائيلي على مستشفى المعمداني الغزّاوي. نطق فاستنكر، ووصفه بأنه “إحدى أبشع المجازر ضد الإنسانية”. وثانية، تكلّم في القمّة العربية الإسلامية المدهشة، قبل أيام في الرياض. أضف أن أحداً لم يسأل عن صمته، ولا ترقّبَه، ولا عاتَبَه، ولا انتظر كلمته، أو وضعه ضمن لائحة “العرب” الضعفاء المتخاذلين المخلّين بواجباتهم القومية. غاب بشّار الأسد عن الحرب الدائرة، ولكن سورية لم تغِب. فبعد شهر على اشتعال هذه الحرب، كانت سورية موضع اهتمام حسن نصر الله، في خطابه ما قبل الأخير. سورية… وليس بشّار الأسد. تفهّم نصر الله “ظروف سورية الصعبة”. والتي، بالرغم من ذلك، “تحتضن مقاومين وتتحمّل تبعات هذا الموقف بالغارات الإسرائيلية على مطار دمشق” (فقط مطار دمشق؟). وأعطى مثالاً على ذلك: مسيَّرات “المقاومة الإسلامية” التي وصلت إلى إيلات في العُمق الإسرائيلي، والتي “ضاعت إسرائيل في تشخيصها”، وكان للحزب فيها سبعة شهداء.
ولكن الأسد لم يكتفِ بالصمت، بل فرضه على السوريين الواقعين ضمن “حُكمه”، فمنع خروج أية تظاهرة تضامنية مع أهل غزّة، وفرض على “الجهات” الفلسطينية الموالية له الحصول على موافقة أمنية مسْبقة قبل تنظيم أي نشاط تضامني، فاستخدم المنع “القانوني” ليرفض كل الطلبات التي تقدّمت بها هذه “الجهات”. وعلى صعيد النشاط، أو العمل، الأمر مختلف. لنتذكَّر أنه قبل يومين فقط من اندلاع عملية طوفان الأقصى، تعرّضت الكلية العسكرية في حمص لمجزرة قضت على ما يناهز الستين خرّيجاً عسكرياً من الكلية. ومن يومها، تخوض قوات بشّار الأسد، ومعه الروس والمليشيات الإيرانية، حرباً على أهل إدلب، بالدبّابات والطائرات، وقد اقترب عدد الغارات ضدهم من الثلاثمئة. وكما تفعل إسرائيل، تستهدف هذه الضربات المستشفيات والمدارس والمساجد والأسواق والأفران، ومراكز الدفاع المدني، والمخيّمات نفسها. وقد ازدادت وتيرة هذه الضربات منذ حرب غزّة، على إدلب وجوارها، وترمي إلى السيطرة المطلقة على منطقة جبل الزاوية وسهل الغاب ومدينتي أريحا وجسر الشغور. ومعروفٌ أن منطقة إدلب، في الشمال الغربي السوري، يسكنها مهجّرون طردهم بشّار من قراهم. يتجاوز عدد سكّانها أربعة ملايين، أكثر من نصفهم نازحون يعيشون في الخيم. أي أنه في وقتٍ يشهد العالم كله الحرب على غزّة بفيض من الأخبار، والصوَر وردود الأفعال العالمية، لا نرى ولا نسمع شيئاً عن مقْتلة إدلب على يد بشّار ومنْقذيه من روس وإيرانيين. الصمت أيضاً يطاول جرائم بشّار، بعد أن نالَ منه شخصياً.
- حسناً، الآن، تخميناتٌ بشأن ما يقف خلف غياب بشّار الأسد عن ساحة، يقول المنطق والعقل إنه من أضلعها الأساسية. “وحدة الساحات” التي أطلقها محور الممانعة، يُفترض أن تضم بشّار الأسد، أحد أركانها، إذ سورية أحد كياناتها “الاستراتيجية”. فما الذي يحصل؟ احتمالات عدة، تؤخذ مع بعضها، أو بمفردها.
ربما انشغال بشّار بالحرب على إدلب، هو ورجالاته، شفط كل طاقته، العسكرية واللوجستية. وهذا سببٌ ضعيفٌ نسبياً، لأن الأطراف الأخرى، من أصحاب الساحة الواحدة، يقومون بأنشطتهم كالمعتاد. وفي خطاب نصر الله، والأخبار الإضافية القادمة من الشام، أن المليشيات الإيرانية تقوم بعملياتها في الجولان، على الحدود الجنوبية، أو ربما، ونحن ما زلنا في إدلب، أن بشّار يخشى أن يسلِّط الضوء على قتله المنتظم أهلها، فيكون استنكارٌ ضدّه، أو يردّ الإعلام الإسرائيلي، إذا دخل المعركة مع إسرائيل، عليه بمشاهد عن مقْتلة إدلب وما سبقها من مقْتلاتٍ بحقّ السوريين والفلسطينيين السوريين، أو ربما علاقته السيئة مع حركة حماس، وهو يأخذها “شخصية”. منذ شهرين، وعلى الرغم من “عودة العلاقات إلى مجاريها” مع “حماس”، بعد خلافٍ معها على تأييدها الثورة السورية، قال الأسد عن هذه العلاقات: “لا يمكن أن تعود إلى سابق عهدها في الوقت الحالي”. التساؤل في العلاقة بين غلّه من “حماس” وصمته السلبي مشروع، ولكنه يطرح سؤالاً آخر عن جدّية “وحدة الساحات”، إن كانت تسير حسب “مصالح” الدولة المعنية بها أو حسب الهوى الفردي لقادتها.
*مواد ذات صلة:
مكاسب الأسد الدبلوماسية لا تؤتي ثمارها لإعادة إعمار سوريا
بالتالي، وربما أيضاً، تجد قيادة محور الممانعة، أي إيران، أن الهوى الشخصي مناسبٌ للدور الذي رسمته لبشّار الأسد، بأن لا يكون أكثر من حصان في معركتها المفترض أنها الكبرى، ستنال فيها من الملك. تحميه من المعارضين لهذا المحور، فيصمت؛ مقابل استخدام أرضه، بلده، قاعدة لانطلاق عمليات مليشياتها ضد إسرائيل وضد قواعد الأميركيين، فيكون “تقسيم العمل” داخل الساحات، بين بشّار الصامت، والمطلق الحرية في قتل أهل إدلب، والحوثيين اليمنيين الذين يكون عليهم إطلاق الصواريخ الانتقامية على إسرائيل، وعلى “المقاومة الإسلامية”، أي المليشيات الإيرانية، العمل أيضاً على ضرب القواعد الأميركية في سورية والعراق، في الحسكة وعلى الحدود العراقية – الأردنية – السورية، وعلى حزب الله الاستمرار بخوض التوتير شمال إسرائيل ضمن درجة أعلى من “قواعد اشتباك”. وهؤلاء هم وكلاء إيران في المنطقة. والأرجح أن بشّار لا يقبل أن يكون “وكيلاً”، جندياً انتحارياً، أو مجرَّد منفِّذ أوامر. إنه عرش، كرسي رسمي، يرنو إلى الخلود. هذا هو ربما دوره في تقسيم العمل بين الساحات.
ولكن المؤكّد أن أية كلمة سينطق بها بشّار، بعدما أعلن، في القمّة العربية الإسلامية، رفضه المفاوضات والحلول السلمية، أنها “ليست الأولوية في هذه اللحظة الطارئة”. إنه يحتفظ لنفسه بمقعد في صفوف أمامية – خلفية للمحور الذي سيعيش بعد غزّة على أنقاضها، ويزدهر، أو هكذا يتصوَّر، فتبقى له حصّة “انتصار” ما يحقّقه محور الممانعة لأطرافه المساهِمة سلباً وإيجاباً في صنعه.
والأبقى أنه لو تجرأ بشّار الأسد وخرقَ صمته، ونفخَ عضلاته ليزايد على المعركة مع إسرائيل، أو تسلّل إلى معركة غزّة، سوف يرفع عليه خصومُه، وربما الفلسطينيون أنفسهم، صورتَين: واحدة تعود إلى ديسمبر/ كانون الأول 2012، لفلسطينيين يهجَّرون من مخيّم اليرموك، بعدما حاصرهم هو نفسه، الأسد وحلفاؤه، وجوَّعهم وقتلهم ودمّر بيوتهم، والثانية تعود إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لفلسطينيين أيضاً يهجَّرون من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد تدمير بيوتهم، تحت وابل الرصاص والصواريخ، بعد حصارٍ مماثل، أكثر إجراماً وفتْكاً.