*ميثاق: مقالات وآراء
- وائل السواح
رجع مفهوم المواطنة في السنوات الأخيرة إلى صدارة البحث بين المنظرين السياسيين، ليس في سورية فحسب، بل في العالم ككل، بعد أن كان اختفى لوهلة من الزمن على امتداد العقود السابقة منذ السبعينات، التي ساد خلالها خطاب أيديولوجي، قومي، شبه فاشي. وثمة أسباب عديدة لهذه العودة، لعل أهمها أن مفهوم المواطنة يختزل في داخله عدة مفاهيم مهمة للبشر، كمفهوم الكرامة والعدالة والانتماء المجتمعي. أهم من ذلك أن المواطنة تتصل في آن معا بقضايا تتعلق بالإنسان كفرد، من ناحية، وفي انتمائه إلى مجتمعه، من ناحية أخرى. وهي بذلك تحتفظ بفردية المواطن واستقلاله وحريته في الفكر والاعتقاد والعمل السياسي والمجتمعي في وقت واحد.
وساعد على عودة مفهوم المواطنة إلى الظهور مؤخرا عوامل أخرى مساعدة مثل التحولات الديموقراطية التي جرت في أوروبا الشرقية في التسعينات من القرن الفائت، وبلدان أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتحوّلُ الديموقراطية من كونها ترفا لا ضرورة له في حمأة النضال من أجل التحرر الوطني والنضال الطبقي إلى كونها ضرورة لازبة لا محيد عنها باعتبارها النظام السياسي الأقل سوءا – إن لم يكن الأمثل. وجاء الازدياد الأخير لخطر الأصوليات والتعصب الديني سواء في إيران أم تلك التي تشكّله الحركات الإرهابية في أفغانستان وبلاد الشام وأفريقيا، وعلى امتداد الكرة الأرضية.
- أظهرت هذه التحولات أن استقرار الديموقراطية وعافيتها لا تكمن فقط في عدالة بنيتها الأساسية وإنما في نوعية وسلوك المواطنين، كمثل شعورهم بالهوية، وكيف ينظرون إلى البنيات المنافسة لهذه الهوية من بنيات قومية وإقليمية ودينية وعرقية، وأهم من ذلك مقدرتهم على التسامح والتعايش والعمل مع الآخرين الذين يختلفون عنهم. وأخيرا رغبتهم في القيام بفعل سياسي لكيما يروجوا لقضية عامة ويقومون بمحاسبة السلطات عليها.
في سورية ودول عربية كثيرة، وخاصة من بينها تلك التي مرّت بتجربة انتفاضات 2011، بات تطوير فكرة المواطنة الآن مطلبا راهنا في منطقتنا أكثر مما في البلدان الأكثر تقدما، لجملة من الأسباب. لقد دفع السوريون ثمنا عزيزا جدّا من أجل تحرّرهم من ربقة أبشع أنواع الاستبداد والطغيان، وسيكون عبثا مريعا وإساءة لذكرى من قضى ومن ضحّى بيننا في سبيل ذلك أن نخرج من طغيان لنقع في طغيان آخر.
أولا: يقوم مفهوم المواطنة على أساس العلاقة التبادلية بين الحق والواجب. وهما مفهومان يكادان يكونان غائبين عن ثقافتنا العربية. ينقسم مفهوم الحق إلى ثلاثة جوانب رئيسية هي الحق في الحياة والحق في الكرامة والحرية والحق في التملك. ولقد أنكر على الفرد تاريخيا في البلاد العربية هذه الحقوق في معظم الأحيان. وغالبا ما كان السماح بهذه الحقوق منة وإنعاما من الحاكم (الخليفة، الوالي، الملك، الرئيس) الذي كان باستطاعته في أي وقت استرجاع ما جاد به. فهو قادر على إزهاق الحياة ومصادرة الأملاك ومنع الأفراد من حقوقهم في العمل التعبير والعيش الكريم، بمجرد إبداء إرادته بذلك. ههنا ينعدم تماما مفهوم المواطنة ليحل محله مفهوم الرعية.
ولا بد، إذن، لتطوير نظرية في المواطنة، من التركيز على أهمية إيجاد الأرضية الثقافية والحقوقية والدستورية التي تعيد الاعتبار لهذه الحقوق الثلاثة الأساسية التي تعتبر المدخل إلى كل الحقوق الأخرى. ولا بد من أن يعمل المثقفون السوريون على ترسيخ هذه الحقوق الثلاثة بحيث يمتنع مرة وإلى الأبد على اية سلطة، مهما كانت ومهما كان مبرر وجودها، أن يكون بإمكانها سحب أي منها (قتل النفس وقتل الكرامة ومصادرة الملكية.) ولا يكفي إقرار ذلك في الدستور، ما لم يترافق ذلك بثقافة حول الحق ينبغي العمل على تأصيلها في أساط المواطنين، بحيث تغدو الحياة والحرية والملكية هي الأسس التي تقوم عليها المواطنة، وليس الانتماء العرقي أو القبلي أو الديني أو الطائفي أو غير ذاك.
*مواد ذات صلة:
من جانب آخر ينبغي التركيز على مفهوم الواجب والتمييز بينه وبين الفرض. فالواجب قضية لا تكون فاعلة إلا إذا كانت نابعة من الذات، وبالتالي قادرة على التحقق بغض الطرف عن القوى التي يمكن استخدامها لتحققها كالقانون والشرطة، مثلا. وفي ثقافتنا، كثيرا ما يحل الفرض محل الواجب، فيقوم الناس بواجباتهم لأنها فرض عليهم، ولأنهم إذا ما تجاهلوها يمكن للسلطة ما أن تنالهم. نرى ذلك في أبسط الأشياء، كالالتزام بإشارات المرور إذا كان الشرطي موجودا وتجاهلها إذا كان غائبا. ولكن الشيء نفسه يمكن أن يقال على الأمور الكبرى، كالضرائب على سبيل المثال. معظم السوريين يتهربون من الضرائب إذا ما أمكنهم ذلك. وهم يعتبرون أن الضريبة نوع من السلب لحقهم في التملك. وهم لا يدفعون ضرائبهم إلا إذا كان سيف العقوبة القضائية مسلطا على رقابهم.
وربما كان من الممكن أن يتفهم المرء الدوافع التي تكمن وراء مثل ذلك السلوك. وأهم هذه الدوافع هو شعور المواطن أن حكومته، في واقع الأمر، غريبة عنه ولا تمثله، وأنها، بالأحرى، سلطة عليه وليست سلطة منه. ويزداد الأمر سوءا عندما يتم الخلط بين الحكومة والدولة. فالحكومة ينبغي أن ينظر إليها على أنها عرض زائل، تعبر عن وجهة نظر واحدة من وجهات نظر متعددة في البد، في حين أن الدولة ومؤسساتها هي دائمة وتهم جميع “المواطنين، وتعود ملكيتها إليهم جميعا بالتساوي.
ولا شك أن السلوك الذي تسلكه الحكومات أحيانا كثيرا (وربما دائما) في تماهيها بالدولة وتصرفها كأنها هي الدولة أو كأن الدولة هي الحكومة هو المسؤول وراء سلوك “المواطنين” حيال مؤسسات الدولة، والطريقة التي ينظر غليها المواطنون إلى الأملاك العامة والمرافق العامة كالطرقات والحدائق العامة ووسائل المواصلات. ونحن نعرف ن السواد الأعظم من السوريين مثلا لا يميزون بين مصطلحي الدولة والحكومة، فيستخدمونهما كمترادفين لمعنى واحد.
على أن التفسير شيء وقبول الأمر الواقع شيء آخر. وكما أن من الخطأ أن تستأثر الحكومة بمؤسسات الدولة، وتستخدمها لأغراضها السياسية الضيقة، فإن من الواجب على النخبة السورية أن تعمل جاهدة لكي يصل غلى وعي السوريين أن ثمة فرقا بين المفهومين، وأنه إذا كان ثمة لبس بسبب من استئثار الحكمة بمدلولات الدولة، فإن من واجب “المواطنين” أن يعملوا بشكل دؤوب وواضح لاستعادة حقهم في أن تكون مؤسسات الدولة ملكا لهم بالتساوي.
ولا بد أخيرا من الاعتراف أنه لا يمكن تأسيس مفهوم المواطنة بعيدا عن مفهوم المجتمع المدني، الذي لا بد له أن يلعب دورا كبيرا، إلى جانب الحكومة (وليس في صفها) في قيادة مؤسسات الدولة. وينبغي أن يأتي هذا الاعتراف من الحكومة أولا ومن “المواطنين” ثانيا. وفقط عندما يصل السوريون إلى هذا الفهم المشترك، يكون الطريق قد أفسح أمام نشوء مفهوم عصري للمواطنة، بعيدا عن مفهوم الرعية الذي ظال سائدا طوال السنوات الفائتة.