*ميثاق: مقالات وآراء
المصدر”تلفزيون سوريا- عبد القادر المنلا“
استحالة سقوط نظام بشار الأسد باتت قناعة تتعزز مع الوقت عند معظم السوريين بعد 12 عاماً من انتظار تلك اللحظة الفارقة، وبعد قناعة امتدت لسنوات باستحالة استمراره نظراً لما اقترفه بحق سوريا وأهلها، وكذلك بالنظر إلى موقف المجتمع الدولي الذي تخيل السوريون أنه لا يمكن أن يحتمل بقاء بشار الأسد.
وبعد أن وصل السوريون إلى مرحلة متقدمة من اليأس، أعادت محافظة السويداء الأمل من جديد بثورتها التي تخيّل كثيرون بأنها ستكون القشة التي تقصم ظهر النظام، ثم ساد اليأس من جديد بعد أكثر من ثلاثة أشهر من المظاهرات اليومية التي لم تستطع أن تهز النظام أو تربكه ولم تحرك المجتمع الدولي، ولاقت إهمالاً يثير الريبة من وسائل الإعلام، رغم كل المراهنات على قدرتها على إحداث أثر كبير وقلب الطاولة على “الأسد”، كونها تدحض روايته عن الثورة التي نجح إلى حد كبير في تعزيزها لدى الرأي العام باعتبارها ثورة إسلامية وطائفية، وجاءت ثورة السويداء لتكشف مزاعمه تلك، وتفضح أكذوبة حماية الأقليات.
غير أن السوريين عادوا لمواجهة اللغز المحيّر ذاته، فلا الثورة السلمية الأولى، ولا المواجهة العسكرية ولا الوعود الدولية ولا الثورة السلمية الثانية التي نفّذها أهالي السويداء، كل ذلك لم يستطع أن يغيّر شيئاً في معادلة بقاء “الأسد”، وحتى الجوع والفقر وانعدام شروط الحياة في سوريا، بل والتمرد الذي أبداه كثيرون من أبناء حاضنة النظام، كل ذلك ذهب في مهب الريح، واستمر نظام الأسد في السلطة وكأن شيئاً لم يكن، وكأن شيئاً لم يتغير.
ورغم كل المتغيرات العميقة والمتسارعة التي شهدها العالم خلال 12 عاماً، ورغم الانقلابات الكثيرة والحروب المتعددة وتغيّر شكل العالم وسقوط رؤساء كثر، إلا أنّ بشار الأسد الذي كان مرشحاً للسقوط أكثر من أي رئيس آخر، لم يسقط ولم يهتز، بل ازداد قوة وغطرسة، وراح يسترد مواقعه السابقة وعلاقاته مع الدول العربية وكثير من دول العالم.
ورغم وعي السوريين العميق بقواعد اللعبة السياسية التي توافقت على حماية بشار الأسد، إلا أن حل اللغز لا يتوقّف عند مبدأ الحماية، فليس من مصلحة طهران ولا موسكو حماية رئيس أو نظام لمجرد أنه يحقق مصالحهما، لأنّ موسكو قادرة ببساطة على تبديل عميلها بعميل آخر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طهران، فلماذا لا يبادر البلدان أو أحدهما للتضحية بـ”الأسد” وحصد نتائج سياسية ستسجّل بلا شك في رصيدهما سواء لدى الشعب السوري أو على المستوى الدولي؟ كما أنه من البدهي -فيما يتعلق بسياسة موسكو وطهران، وقياساً لما تمارسانه من إجرام على مستوى العالم- ألا تكونا حريصتين على مبادئ تمنعهما من الغدر بحليف أو عميل.
وفق ما آلت إليه الأمور في الآونة الأخيرة، فإننا لا نستطيع اليوم الحديث عن النظام السوري بوصفه كياناً مستقلاً، ولا عن سوريا باعتبارها دولة أو شبه دولة أو دولة فاشلة أو حتى بقايا دولة، كما أنّ الحقيقة المؤلمة في هذا السياق، لا تتمثل في أن سوريا اليوم أصبحت محتلة من قبل أكثر من دولة، ولا في مصادرة قرارها، بل في تآكلها وانهيارها وزوالها، لأن أي دولة يمكن أن تتعرض للضعف والترهل، وتتعرض للاحتلال ولكنها تستطيع أن تنهض من جديد. غير أن ما يحدث في سوريا اليوم هو شيء مختلف تماماً، فسوريا أصبحت ظاهرياً جزءاً من حلف تقوده موسكو وطهران، وبالتالي لن يسقط النظام إلا بسقوط الحلف كاملاً.
المعضلة التي تواجه سوريا اليوم تتجسد في صلابة ذلك الحلف وقدراته المتنامية وامتلاكه لكثير من أوراق اللعب، الأمر الذي يصعّب الحديث عن سقوطه في المستوى المنظور، فضلاً عن ركاكة الحلف المضاد (أميركا والغرب) وترهله وتهاونه وربما توافقه في كثير من القضايا مع طهران وموسكو، الأمر الذي يجعل من حلف طهران وموسكو أداة وظيفية في يد الحلف المضاد، مما يوحي بحرص أميركا ذاتها على استمرار قوة خصمها مما يزيد في تعقيد المشهد وانعكاساته على القضية السورية.
من هنا فإنّ نقطة قوة النظام هي في ذات الوقت نقطة ضعفه، أو بشكل أدق: نقطة ضعف سوريا، ليس فقط لأنّ النظام رهن نفسه للحلف، بل لأن الحلف ذاته (موسكو وطهران) لا تصنفان سوريا كجزء من هذا الحلف، بل كأداة، وبالتالي فهو (الحلف) لا ينظر إلى سوريا على أنها شريك، ولا يراها دولة يمكن أن تلعب دوراً معيناً في مسار الحلف ومصالحه، في تقاطعه وتباعده مع البلدان الأخرى، بل هي منطقة اللعب التي لا يسمح أن يكون لها دور في تقرير مصيرها، أو الاحتفاظ بوجودها أو الاعتراض على قرار استراتيجي أو المشاركة في رأي.
موسكو وطهران تلخصان سوريا في رأس النظام، فسوريا هي بشار الأسد وحده، أما ما تبقّى من شعب وجغرافيا وتاريخ وثقافة وحضور بشري ومعمار وفنون، فلم يعد له وجود في حساباتهما، وطالما بقي “الأسد” مطيعاً، فسيبقى الحصان الرابح لديهما.
وسواء كان “الأسد” يعي ذلك بحكم وجوده داخل اللعبة، أم لا يعيه كونه ارتضى أن يكون الأداة، فإن ضمان استمراره في الحكم الشكلي لسوريا هو ضمانة أكيدة ليس لتفكيك سوريا وتجزئتها وإضعافها وحسب، بل أيضاً ضمانة لإزالتها من الخريطة الدولية ومن ثم تأسيس وعي جديد قادر على استخراج هوية جديدة للمنطقة ومحو هويتها التاريخية، وهو ما تُرك “الأسد” من أجل تسهيل إنجازه رغم كل الأسباب التي تستدعي إسقاطه حتى من قبل حلفائه.
لقد سقط النظام فعلياً منذ سنين طويلة، وتحوّل إلى واحدة من قوى الأمر الواقع والتي لا تختلف عن غيرها من الميليشيات والعصابات المسلّحة المنتشرة على الأرض السورية إلا بكونها مدعومة من الحلف الذي يوظفها في المهمات التي يريد توظيفها فيها، ولذلك فإن معركة السوريين اليوم لم تعد مكرسة لدفن جثة النظام بل هي معركة استرداد بلدهم الآيل للضياع.
ربما لم يعد أمام السوريين مخرج من ورطتهم وهم يرون بلدهم ينتهي، وربما تم طوي صفحة سقوط الأسد طالما بقي الحلف الذي يختبئ خلفه قوياً، وربما كان الإحساس بالعجز هو الإحساس الوحيد المتبقي لدى الوطنيين السوريين الذين لم يعد لهم سند وفقدوا الدعم الدولي بحكم انحياز المجتمع الدولي بدوره إلى مصالحه على حساب المبادئ، غير أن بوابة الأمل ما زالت مفتوحة وطريق الحرية والخلاص ما يزال سالكاً، ففي السويداء ثورة ما تزال بحاجة إلى دعم السوريين كافة وبكل الطرق الممكنة، وهي بحاجة إلى ذلك الدعم قبل أن تنتهي بفعل القصور الذاتي وتغلق تلك النافذة إلى الأبد وتترك المشروع الروسي/الإيراني يعبر على جسد سوريا من دون أي مطبات أو عوائق.